قراءة في مبنى الشيخ النجاشي O
في التّوثيقات والتّضعيفات
الشيخ جاسم الفهدي (دام عزّه)
بسم الله الرحمن الرحيم
تُعدُّ السُّنّة الشَّريفة ـ وخاصَّة الرّوايات منها ـ مصدراً أساسيّاً من مصادر التّشريع الإسلاميّ عند جميع الفرق الإسلاميّة؛ لما تغطّيه من مساحة من الأحداث والوقائع الملامسة لحياة الإنسان وبيان الأحكام الشرعيّة وتحديد المواقف منها، لذا نجدها محلّ اهتمام الأعلام (رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين) سنداً ومتناً.
ولا يمكن إغفال ما لطرق تلك الروايات ومعرفة رجالها من أهمّيّة بالغة يمكن من خلالها استكشاف الصدور عن المعصوم g, حتّى تراهم قدّموا السند على المتن الذي يتناول المضمون، باعتبار أنّ صحّة الإسناد وإثبات الصدور هو أساس له، ولولاه لما كان هناك داعٍ لدراسة المتن بعد نفي كونه صادراً عن المعصوم g.
ومن هنا برزت الحاجة لعلم الرجال واتّسعت الضرورة لمعرفة أحوال الرواة ومعرفة وثاقة نقلهم، ولذا فقد تصدّى جملة من العلماء لتدوين أسماء الرجال وما ألّفوه وكتبوه من مصنّفات ومؤلّفات، بل وصل الحدّ عند بعضهم إلى بيان أحوالهم وأحوال من يتعلّق بهم لمسيس الحاجة إلى تلك الأوصاف لمعرفة وثاقة الرواة والمرويّات.
وقد وصلت إلينا جملة من كتب الرجال، ولعلّ أقدمها ما يُعرف بـ (رجال البرقي) الـذي دوّن فـي القـرن الثـالث الهجـري, وهو كـتاب في طـبـقات أصح ـ ابنا المعـاصـرين للأئمّة i.
ثمّ تلاه كتاب (الكشّي) للشيخ محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّي O (ت ٣٥٠ هـ), حيث حوى بين طيّاته مجموعة من الأخبار الواردة في الرجال, إلّا أنّه لم يصل إلينا, وما وصل إنّما هو ما اختاره الشيخ الطوسي S (ت ٤٦٠ هـ) منه، وسمّاه (اختيار معرفة الرجال)، ثمّ وصَلَنا جزء من مؤلّفات ابن الغضائري (ت ق ٥هـ) المسمّى بـ(كتاب الضعفاء) على كلام قد وقع في ثبوت نسبته إليه، ثمّ (الفهرست والرجال) للشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري، وفي القرن نفسه من ذلك الزمان جاء دور النجاشي O وما دوَّنه في علم الرجال, إلّا أنّه تأخّر عن (الفهرست والرجال) وكانا من مصادره عند تأليفه لكتابه.
وقد عدّ هذا الكتاب من أهم الأصول الرجاليّة عند الشيعة الإماميّة, واهتمّ به من تأخّر عنه من العلماء، وجعلوه المقدَّم في ميدان الجرح والتعديل, ولا يعدوه فقيه من فقهائنا في أبحاثه, ملاحظين جميع مواطن كلامه, ناظرين في دقائق بيانه, فكان المصدر المقدَّم في علم الرجال, والمعتمد في معرفة أحوال الرواة, ولعلّ أوّل من صرَّح بالاعتماد عليه وجعله الأساس والمقدَّم في دراسة أحوال الرجال هو المحقّق الحلّيّ O(١), وجرى على ذلك جميع العلماء.
وقد احتلّ كتاب النجاشي شهرة واسعة حتى وُصف بغاية الضبط وأنّه الأثبت, كما قال الوحيد O في ترجمة إبراهيم بن عمر: (إنّ النجاشي في غاية الضبط, ونهاية المعرفة)(٢)،ووصفه التقي المجلسي O: (أثبت الجميع كما يظهر من التتبّع التام)(٣).
فكان خرّيت الصناعة، حسن البضاعة، عارفاً، ضبطاً، حتى أُوصي له ببعض المكتبات والعديد من المصنّفات، وهو ما يعدُّ مؤشراً واضحاً على ما قلناه, بتقريب:
أنّه لمّا كان للحديث والتحديث دور رابط بأحكام الإسلام وطريق كاشف لحقائقه كان لاهتمام العلماء به دور متميّز وفاعل، ومن أجله بذلت الأموال والأوقات حتّى تكوّنت ثروة من المعلومات، دُوّنت في جملة من المصنّفات، منسوخة بأجود الخطوط.
والحفاظ على هذه الثروة التراثيّة ـ بحسب الوضع الطبيعيّ ـ يستدعي إيداعها عند أهلها، العارفين لقيمتها، وفي مقدّمتهم المختصّون في شؤونها؛ وعلى هذا كانت الشواهد المتاحة بين أيدينا، فنجد أنّ البعض قد أوصى بمكتبته لهم، كما يظهر من بعض ما ورد في كتاب (الكشّي) عند تعرّضه لحال ابن بزيع، قائلاً: (قال حمدويه عن أشياخه: إنّ محمد ابن إسماعيل بن بزيع وأحمد بن حمزة بن بزيع كانا في عداد الوزراء، وكان علي بن النعمان أوصى بكتبه لمحمد بن إسماعيل)(٤).
وروى الكشّي عن حمدويه عن أشياخه، قالوا: داود بن النّعمان خيّر فاضل, وهو عمّ الحسن بن علي بن النعمان, أوصى بكتبه لمحمّد بن إسماعيل(٥).
ومثل هذا قد يكشف عن توثيق ضمني بالموصى إليه؛ إذ من البعيد أن يدفع شخص هذا الجهد الكبير الذي تحمّل لتحصيله الصعاب والأتعاب إلى من لا يثق به من جهة أمانته وفهمه.
وقد لوحظ في كتاب النجاشي تكرّر الوصيّة من الأصحاب ببعض الكتب والمصنّفات إلى النجاشي نفسه O، كما ورد في ترجمة محمّد بن إبراهيم بن جعفر، قائلاً: (رأيتُ أبا الحسين محمّد بن علي الشجاعي الكاتب يقرأ عليه كتاب الغيبة تصنيف محمد ابن إبراهيم النعماني بمشهد العتيقة؛ لأنّه كان قرأه عليه، ووصّى لي ابنه أبو عبد الله الحسين بن محمّد الشجاعي بهذا الكتاب، وبسائر كتبه، والنسخة المقروءة عندي)(٦).
وما أوصى له به أُستاذه أبو العباس بن نوح السيرافي من كتب كما ذكر ذلك مكرّراً في كتابه، مثل ما ورد في ترجمة عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري، قائلاً: (له كتاب في الإمامة، وكتاب سمّاه كتاب الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس. والزبيريون في أصحابنا ثلاثة، هذان وأبو عمرو محمّد بن عمرو بن عبد الله بن مصعب بن الزبير. رأيت بخط أبي العباس بن نوح فيما أوصى به إليّ من كتبه)(٧)، ومثله كثير(٨).
ومثل هذا يمثّل شاهداً واضحاً على فضل المصنّف ـ لاستبعاد تفريط المصنّفين بما حووه في خزانات مكتباتهم مع ما عليه المشقّة في تلك الأزمان بتسليمه لمن لا يرونه أهلاً ـ لا سيّما تكرّر الإيصاء إليه بمجموعة من الكتب والمصنّفات.
وقد وصف الرجل بعبارات المدح والثناء على لسان جملة من العلماء، مثل ما حكي عن تلميذه الصهرشتي في قبس المصباح: (إنّه كان شيخاً بهيّاً, ثقةً, صدوق اللسان عند المخالف والموافق)(٩), ولعلّه من هنا جاءت شهرة هذا الكتاب, لما امتاز به مؤلّفه من شهرة ووثاقة حتى قيل فيه (ثقة مشهور)(١٠), ووصفه العلّامة قائلاً: (ثقة معتمد عليه عندي). ووصفه المحقّق الداماد، قائلاً: (إنّ أبا العبّاس النجاشي، شيخنا الثقة المعتمد، الفاضل، الجليل القدر، السند المعتمد عليه)(١١).
ومَن حاز هذه الأوصاف, ومدح على لسان العلماء المقدّسين الأشراف لما اكتسب في ذاته من مكانة, وما حواه من معرفة في هذا المجال, واكتنف سِفره من مكنونات الأسرار, كيف غفل بعضٌ واتّهمه بكثرة الأخطاء(١٢)؟!
أو كيف أمكن لآخر أن يتّهمه بسوء المذهب ورداءة المسلك(١٣), بعد تواتر الاعتماد عليه بين الأصحاب ـ كما عرفت ـ بل شيوع أمره بين الموافق والمخالف في الاعتقاد؟!
الملاك في توثيقات وتضعيفات النجاشي
قدَّم الشيخ النجاشي O لكتابه ديباجةً أبرز فيها غرضه من هذا التصنيف, بعد تعيير قوم من المخالفين بأنّ أصحابنا لا سلف لهم ولا مصنّف، فأثار ذلك عزيمته, وحرّك همّته، فانبرى مدافعاً عمّا يعتقد, ومظهراً ما عرف لمن لا يعرف, فجمع جملةً كبيرةً من هذه المصنّفات لمجموعة كبيرة من الرواة تحت عناوين وأسماء مضمّناً ما قيل فيهم من مدح وذم, وما يتّصل بنسبهم, وغير ذلك ممّا يتعلًق بأحوال الرجال.
وكان الأساس في هذه الأحوال هو نقل ما ذكره المتقدّمون وأثبتوه من أقوال, لتعارف تأليف كتب الفهارس والرجال بين المتقدّمين من الأصحاب حتى بلغ عددها من زمان الحسن بن محبوب (ت٢٢٤هـ) إلى زمان الشيخ الطوسي (ت٤٦٠هـ) نيّفاً ومائة كتاب، وقد جمع ذلك البحّاثة الشهير الشيخ آقا بزرك (ت ١٣٨٩ هـ) في كتابه مصفّى المقال في مصنّفي علم الرجال.
فأصبح النجاشي فيما ألّفه من فهرست المصنّفين طريقاً حسّيّاً لنقل هذه التوثيقات والتضعيفات, ناظراً في كلّ ما قيل, ومتأمّلاً في جميع ما نقل, فجاء بأحسن ما يمكن من مقال, وأتقن ما ألّف وصنّف في هذا المجال, من دقّة التعبير بأوجز الكلمات, و تتبّع الأنساب لفصل المشتركات, ومعرفة ما صنّف وجميع ما ألّف, بل حتّى وصل إلى ذكر النسخ إذا كانت متعدّدة.
ويمكن تقسيم كلمات النجاشي في ذكر أوصاف الرجال إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأوّل: ينقل الوصف صريحاً عن علماء الطائفة ومشهورهم, كما يلاحظ ذلك في قوله (ضعّفه أصحابنا) أو (ذكره أصحابنا) أو (رأيت أصحابنا يضعّفونه), أو (قال أصحابنا: لم يكن بذاك), وغيرها.
القسم الثاني: ينقل أقوال العلماء المختلفة في الرجل، كما يلاحظ في ترجمة الحسن بن أحمد بن القاسم، حيث قال: (سيّد في هذه الطائفة غير أنّي رأيت بعض أصحابنا يغمز عليه في بعض رواياته)(١٤).
وفي ترجمة أحمد بن محمّد بن جعفر، حيث قال: (وكان ثقة في حديثه مسكوناً إلى روايته غير أنّه قيل يروي عن الضعفاء)(١٥).
وفي ترجمة أحمد بن الحسين بن سعيد حيث قال: (روى عن جميع شيوخ أبيه إلّا حماد ابن عيسى فيما زعم أصحابنا القمّيّون وضعّفوه، وقالوا: هو غالٍ وحديثه يعرف وينكر)(١٦)، وغيرها.
القسم الثالث: يذكر الوصف صريحاً جازماً من غير نسبة، كما إذا قال (ثقة) أو (ضعيف) وغيرهما من الأوصاف.
والذي يظهر منه في هذا القسم كون الوصف متّفقاً عليه بين الطائفة من غير خلاف يذكر إلّا إذا دلّت قرينة على خلاف ذلك، كما وقع في الحسن بن الحسين اللؤلؤي الذي ضعّفه محمّد بن الحسن بن الوليد وأبو العباس السيرافي إلّا أنّه وثّقه صريحاً في ترجمته.
والذي يظهر من هذا القسم أيضاً أنّ منشأه هو شياع وشهرة الوصف بين الأصحاب مع قيام الشواهد والقرائن على ما اتّفق عليه الأصحاب، مثل اشتهار واقفي كذّاب بينهم مع قيام شواهد لدى النجاشي على كذبه، فيحكم بضعفه بصورة جازمة كما ورد في ترجمة الحسن بن محمّد بن يحيى حيث قال: (روى عن المجاهيل أحاديث منكرة رأيت أصحابنا يضعّفونه)(١٧).
وما ورد في ترجمة عبد الله بن سنان حيث قال: (ثقة، من أصحابنا، جليل، لا يطعن عليه في شيء)(١٨)، ومثل هذا يُظهر قيام الشواهد المؤكّدة عنده لما اشتهر بين الأصحاب من وثاقته ونفي مطلق الطعن عنه.
ولعلّ هذا يمكن أن يُعلم أيضاً ممّا ورد في ترجمة محمّد بن عيسى بن عبيد حيث قال: (ورأيت أصحابنا ينكرون هذا القول ويقولون مَن مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى)(١٩).
ثمّ ذكر في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى توثيقاً عن ابن نوح حيث قال: (وقد أصاب شيخنا أبو جعفر محمّد بن الحسن بن الوليد في ذلك كلّه، وتبعه أبو جعفر بن بابويه O على ذلك إلّا في محمّد بن عيسى بن عبيد فلا أدري ما رابه فيه؛ لأنّه كان على ظاهر العدالة والثقة)(٢٠)، حيث نقل وثاقته عن الأصحاب وشهرتها بينهم, حتى أنكر ابن نوح ما ذكره ابن الوليد في حقّه؛ لعدم قيام الشواهد على ضعفه.
ويمكن أن يشهد لطريقته أيضاً ما ورد في ترجمة علي بن محمّد بن شيرة حيث قال: (كان فقيهاً مكثراً من الحديث، فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى، وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك)(٢١)، بتقريب ظهور تتبّعه لإيجاد الأدلّة، وتثبيت الشواهد للأقوال فمتى ما وجد الشواهد على الأقوال حكم بصورة جازمة.
أمّا القسم الأوّل ـ وهو التوصيف المنسوب إلى الأصحاب ـ فالذي يظهر ممّا تقدّم عدم قيام الشواهد عنده على الإثبات، فينسبه إلى الأصحاب.
نعم، قد تقوم عنده الشواهد على خلاف ما اشتهر بين الأصحاب، لكنه يرجّح ما اشتهر ويعمل به، كما يظهر من ترجمة ابن عياش حيث قال: (رأيت هذا الشيخ، وكان صديقاً لي ولوالدي، وسمعت منه شيئاً كثيراً, ورأيت شيوخنا يضعّفونه، فلم أروِ عنه وتجنّبته، وكان من أهل العلم والأدب القوي وطيب الشعر حسن الخط (رحمه الله وسامحه)(٢٢).
والحاصل: أنّ الذي يظهر من توصيفاته التي وردت بصورة جازمة من غير نسبة إلى الأصحاب هو مشهوريّة الوصف بينهم مع قيام الشواهد المثبتة عنده.
وفي قبال هذا زعم بعضٌ حدسيّة توصيفات النجاشي O التي جاءت بصورة جازمة ـ على خلاف الصحيح من مذهب المشهور من حسيّة أحكام النجاشي O ـ متمسّكاً بعدّة أدلّة:
الدليل الأوّل:
إنّ المستند في كثير من هذه الموارد ـ إن لم يكن الكلّ ـ في الجرح هو اجتهاده أو اجتهـاد بعض مشـايـخه, اعتماداً على مضمون ما ينقـله الراوي من الروايـات أو غـيرها من
القرائن, لا على النقل المتّصل سنداً إلى من عاصر الراوي وشهد عليه بذلك, فضلاً عن أن يكون ذلك النقل الحسّي متواتراً ومستفيضاً, وإنّما بالاعتماد على مبنى كلامي لديه أو لدى بعض مشايخه(٢٣).
وجوابهُ: إنّ ما ذكر خلاف طريقة النجاشي في نقل هذه الأقوال كما عرفت ممّا تقدّم, إذ يجد الملاحظ كثرة تصريحاته بأنّه ليس إلّا ناقلاً للأقوال من علمائنا المتقدّمين في الرجال, ويشهد لذلك ما ذكره في بداية الجزء الثاني من كتابه، قائلاً: (الجزء الثاني من فهرست أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركنا من مصنّفاتهم, وذكر طرف من كناهم، وألقابهم، ومنازلهم، وأنسابهم، وما قيل في كلّ رجل منهم من مدح أو ذم)، وصريح هذا هو نقل ما قيل في كلّ رجل, وهذا شاهد حسّ لا حدس كما هو واضح.
ويظهر ذلك في كثير من هذه التراجم, كما جاء في التعبير عن بعض هذه الأوصاف بأنّه (ذكره الأصحاب) أو (قاله أصحابنا) أو (علماء الرجال), ويظهر ذلك جليّاً من ترجمة أبي المفضّل الشيباني، حيث قال: (ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه، رأيت هذا الشيخ وسمعت منه كثيراً، ثمّ توقّفت عن الرواية عنه إلّا بواسطة)(٢٤).
بتقريب: أنّ أبا المفضّل على الرغم من معاصرته له, وسماعه منه فترة من الزمن, الظاهر منه معرفة حاله بالمعاشرة والمصاحبة, إلّا أنّه ترك سماعه اعتماداً على رأي الأصحاب ممّا يؤشّر على حرصه على أقوالهم وآرائهم, بل عمله واعتماده عليهم. وهذا بخلاف غيره كابن الغضائري O عندما نظر إلى أبي المفضّل نفسه الذي قال فيه: (وضّاع، كثير المناكير, رأيت كتبه وفيها الأسانيد من دون المتون والمتون من دون الأسانيد, وأرى ترك ما ينفرد به)(٢٥)، حيث يظهر منه إعمال نظره واجتهاده بسبب نظره إلى كتابه.
وبهذا يظهر الفرق بين مسلك النجاشي وغيره كابن الغضائري, حيث إنّ الصريح منه هو الاعتماد على كلام العلماء في ترك السماع والرواية، ولا يعتمد على كلام ابن الغضائري وحده, حتى يقال: يعتمد على من يجرح بالحدس.
وإليك جملة من الشواهد على ما ذكرنا:
١- قوله في ترجمة إسماعيل بن يسار: (ذكره أصحابنا بالضعف)(٢٦).
٢- قوله في ترجمة إسماعيل بن علي وإسماعيل بن عبد الله: (ذكر أصحابنا إنّ لهما كتاب خطب)(٢٧).
٣- قوله في ترجمة الحسن بن عطية الحنّاط: (وما رأيت أحداً من أصحابنا ذكر له تصنيفاً)(٢٨).
٤- قوله في ترجمة الحسين بن أحمد المنقري: (وكان ضعيفاً ذكر ذلك أصحابنا)(٢٩).
٥- قوله في ترجمة الحسن بن أبي عثمان الملقّب بـ(سجادة): (ضعّفه أصحابنا)(٣٠).
إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي يظهر من خلالها ـ للمتتبّع ـ بناؤه على ما نقل من الثقات في أحوال الرجال.
وعلى هذا يقاس ما ذكره من توثيق أو تضعيف من دون أن ينسب ذلك إلى الأصحاب؛ لوضوح عدم شائبة الخلاف فلم يحتج عند ذكره الوصف إلى نسبته للأصحاب, أو شهرة ما نقل, وعدم الاعتداد بمن خالف واعترض.
أمّا مَن ذكر له وصفين ـ كأن ذكر له مدحاً وذمّاً ـ ممّا يكشف عن وجود الخلاف، فإنّه كذلك يعدّ شاهداً على عدم كونه مثبتاً لما يحدس ويعتقد في ما ألّفه وصنّفه، بل شاهداً وناقلاً.
مناقشة ما استُشهد به على مبنى الحدسيّة
وقد استُشهد على كون أحكام النجاشي ثابتة بالحدس بجملة من الموارد، وسوف نتناول هذه الموارد بالنقاش بما يتّضح من خلاله بطلان ما ذكر:
المورد الأوّل(٣١): طعن علماء الرجال في جملة من موارد الجرح والتعديل المسندة التي ذكر الكشّي طرقها إلى من عاصر تلك المفردات ببعض من لم يوثّق، فاستضعفت تلك الموارد من الجرح والتعديل أو التوثيق، فمن غريب المفارقات حينئذ المناقشة في توثيقات الكشّي أو طعونه استضعافاً لطرق تلك التوثيقات مع الإهمال في طرق النجاشي والحكم بصحتها أو استفاضتها أو تواترها، فإنّ المداقّة في أسانيد الكشّي لا يتلاءم مع الإغماض عن مستند آراء النجاشي في الجرح والتعديل، أو الشيخ، أو الغضائري الابن، وغيرهم من متقدّمي أرباب الجرح والتعديل.
ويجاب عنه بأنّ من الثابت في عصر المشايخ تواتر أحوال غالب المصنّفين, ويشهد لذلك ما ورد في مقدّمة فهرست الشيخ O حيث قال: (فإذا ذكرتُ كلَّ واحدٍ من المصنّفين وأصحاب الأصول فلا بدّ أن أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والجرح)(٣٢)، وكذلك ما ذكره النجاشي في مقدّمة الجزء الثاني: (وما قيل في كلِّ رجلٍ منهم من مدح أو ذم)(٣٣), وكذلك ما ذكره الشيخ في العدّة حيث قال: (وجدنا الطائفة ميّزت بين الرجال الناقلة، ووثّقت الصحيح منهم، وضعّفت الضعفاء)(٣٤)، كلّ هذه شواهد حسّيّة على تواتر أحوال الرواة، فلا يحتاج في الاعتماد على تلك الشهادات إلى مزيد بيان.
وهذا بخلاف الكشّي فإنّه وإن كان من متقدّمي الأصحاب إلّا أنّه إذا نقل حكماً بواسطة سلسلة الإسناد فإنّه لا بدّ أن ينظر إلى مَن فيها من الثقات أو الضعاف, دون إذا ما شهد بوثاقة أو ضعف أحد الرواة، فإنّه يعتبر شاهد حسّ على ما نقله من أحكام, فلا غرابة في ما اعتمده وسار عليه الأعلام.
وممّا يشهد لما ذكرنا وجود ملاحظات نقديّة جاءت متناثرة في طيّات كتابه على مسلك أصحابنا القميّين, كأحمد بن محمّد بن عيسى وابن الوليد كما هو المعروف عنهم اعتمادهم على الحدس؛ إذ يظهر من جملة هذه التضعيفات أنّ هناك جملة من الأسباب كانت عندهم أساساً للذم.
المورد الثاني: قوله إنّ من الشواهد القاطعة اختلاف مباني جملة من أجلّاء الرواة المشاهير ـ المعاصرين للراوي ـ مع النجاشي في الجرح والتعديل, حيث ثبت بأسانيد صحيحة رواية الأجلّاء, وأصحاب الإجماع بكثرة عن جملة من الرواة الذين ضعّفهم النجاشي, أو بالغ في تضعيفهم(٣٥).
فإنّه يرد عليه:
أوّلاً: أنّ رواية الجليل عن شخص ليس فيها دلالة على وثاقة المرويّ عنه, كما هو المشهور عند علمائنا؛ لوضوح اعتماد المتقدّمين من الأصحاب على القرائن المصحّحة للرواية, الذي يعبّر عنه بمسلك الوثوق بمضمون الخبر, اعتماداً على بعض القرائن التي تحيط بالمضمون؛ لذا نجد بعض الأصحاب ينقلون عن الضعيف, بل إنّ البعض قد أكثر من هذا النقل, ولعلّ أساس هذه الكثرة اعتضاد أخباره بما رواه الأصحاب أو غيرها من القرائن, وإن كان قد عُدّ عند بعضٍ أنّ كثرة الرواية عن الضعفاء موجبة لوهنه، إلّا أنّه لا يعدو عن كونه منهجاً متشدّداً في علم الرجال كما سوف تأتي الإشارة إليه.
والنقل عن الضعفاء نجده واضحاً حتى في روايات المشايخ الثلاثة، إلّا أنّ هذا لا يعتبر هادماً لتضعيفات علمائنا المتقدّمين الصريحة في الجرح.
فما ذكر في أصل الإشكال يؤدّي إلى أنّ مبنى المتقدّمين عدم كثرة الرواية عن الضعيف, وإن كانت مضامين أخباره مطابقة للواقع بدلالة القرائن, فحينئذ تعدّ روايتهم عنهم شهادة بالمدح، إلّا أنّه خالٍ من الدليل.
وما نقل عن المشايخ الثلاثة, من أنّهم لا يروون, ولا يرسلون, إلّا عن ثقة, لا يعارض مَن نصّ على ضعفه علماؤنا أمثال النجاشي, أو الشيخ؛ للأخصيّة أو النصوصيّة.
ثانياً: لو سلّمنا اختلاف مباني المتقدّمين مع مباني النجاشي, إلّا أنّه لا يدلّ على كون تضعيفات النجاشي مبتنية على الاجتهاد والحدس, وليس هذا بعزيز, بل هو واقع وكثير, كما يظهر من اختلاف طرفين في عدالة شخص أو شجاعته أو غير ذلك, وهذا لا يكشف عن اعتمادهم على الحدس بل قد تكون حسّيّة مبتنية على المشاهدات الخارجيّة.
نعم، يصحّ ما ذكر لو قلنا إنّ المراد بالوثاقة المستفادة من رواية الأجلّاء هي روايتهم عمّن اتّفق بينهم على وثاقته.
إلّا أنّه مع كونه نادراً في الرواة, يدلّ على بطلانه رواية المشايخ الثلاثة ـ الذين عرف عنهم بأنّهم لا يروون إلّا عن ثقة ـ عمّن وقع فيهم الخلاف أمثال محمّد بن سنان, والمعلّى بن خنيس, وعلي بن أبي حمزة البطائني.
المورد الثالث: وجود جملة من الموارد التي اختلف فيها الشيخ مع النجاشي من حيث التضعيف والتوثيق أو عدمهما, وكذلك الحال مع البرقي, مع أنّه لو كان مستند النجاشي الخبر الحسّي المتضافر ـ فضلاً عن المتواتر ـ لما كان مجال للاختلاف بينهم, فالتعارض في الجرح والتعديل في الأصول الرجاليّة المتقدّمة يكشف عن عدم التواتر في مستند آرائهم, بل ولا كونها نابعة من الحس(٣٦).
ويجاب عنه:
١ ـ لو سلّمنا أنّ النجاشي جارح عن حدس فلا يختصّ ذلك بالتضعيف؛ لإمكان فرضه في التوثيق أيضاً.
٢ ـ إنّ ما ذكر من الاختلاف لا يعدّ كاشفاً عن حدسيّة الأحكام, لإمكان الاختلاف في الحسّيّات أيضاً أو في القريبة من الحسّ.
٣ ـ إنّ الموارد التي وقع الخلاف فيها بين الشيخ والنجاشي غير كثيرة, بل هي قليلة, ولا يختصّ هذا الاختلاف بما ذكر, فهناك من ضعّفهم الشيخ ووثّقهم النجاشي كمحمّد ابن يحيى بن عبيد وغيره.
فنقول: إنّ ما وقع فيه الخلاف بين العلمين كان ناشئاً من الاختلاف في مباني علم الرجال, فبعضٌ قد يعتمد النقل أساساً في قراءة الأحوال, والآخر قد يلاحظ الأخبار ميزاناً في وصف الرجال, وفي المقام يقال بحسّيّة تضعيفات النجاشي, لأنّه اعتمد النقل منهجاً, دون الشيخ لأنّ المحتمل كون تضعيفاته جارية على مباني القمّيين, لما بيّنا في بحث مستقل أنّ ظاهر أحكام الشيخ ناشئة من متابعته لمدرسة قم.
المورد الرابع: النقض بدعوى التواتر والاستفاضة في روايات الكتب الأربعة, مع أنّ الدواعي متوفّرة بالأضعاف في الاهتمام بالروايات, وتكثير الطرق, وقيام الشواهد المتكاثرة على تعدّد الطرق للروايات, وإنّ ما ذكره أصحابها من الطرق ليست هي كلّ ما لديهم، إلى غير ذلك من عشرات القرائن والشواهد التي اعتمدها الأخباريّون في دعواهم, ووافقهم عدّة من الأصوليّين, ومع ذلك لم تثبت ولم تتقرّر الحجّيّة لكلّ ما في الكتب الأربعة بنحو الاستغراق التام, وإنّ ذلك يولّد علماً إجماليّاً بالصدور(٣٧).
بتقريب: أنّ الروايات بالرغم من شدّة الاهتمام بها والمبالغة في تكثير الطرق لها إلّا أنّه لم يصل إلى حد إثبات الحجّيّة لكلّ ما في الكتب الأربعة من روايات، فكيف أمكن أن يدّعى ذلك بالنسبة إلى أحكام النجاشي التي هي في الغالب مرسلة.
ويجاب عنه بأنّ من الثابت في بعضٍ من أحكام النجاشي هو نشوؤها عن الحدس وإعمال الرأي, كما يتّضح ذلك فيما قاله في (الحسن بن الحسين اللؤلؤي) وغيره من الموارد, إلّا أنّه لا يمكن جعل ذلك ميزاناً في تقييم جميع كلماته, فالأصل في أحكامه هو عن حسّ إلّا إذا اقترن بما يدلّ على الحدس وتكون حجّة بناء على حجّية خبر الثقة, أو من باب الاطمئنان بكلامه الناشئ من وثاقته وخبرته في الفن, أو غير ذلك من المباني التي ذكرت في باب حجّية قول الرجالي, ووجود أمثال هذه الموارد لا يضرّ بذلك الأصل؛ لوجود قرينة عليها.
ملاكات التضعيف عند القمّيّين
المعروف عن أصحابنا القمّيّين تضعيف مجموعة من الرجال الموثّقين عند غيرهم؛ اعتماداً على بعض المباني والملاكات التي تظهر من بعض الترجمات.
منها: اتّهام الراوي بضعف الحديث:
فلا يعتمدون مطلقاً على مَن كان موصوفاً بضعف الحديث, كما في سهل بن زياد, وغيره إلّا أنّ المشهور بين العامّة والخاصّة هو العدم؛ إذ الرواية عن الضعيف, أو رواية المرسل, أو الرواية عن المجاهيل, لا تلازم الضعف في ذات الراوي ووثاقته.
فقد ذكر الوحيد في تعليقته، قائلاً: (اعلم أنّه فرق بين ظاهر قولهم (ضعيف), وقولهم (ضعيف في الحديث), فالحكم بالقدح منه أضعف)(٣٨).
وصرّح الشيخ المامقاني في مقباس الهداية، قائلاً: (وظاهر تقييد الضعف ونحوه بالحديث هو عدمه في نفسه)(٣٩).
نعم, يمكـن أن ينعـت الضـعيف في بعض الكلمات بضعف الحديث كما قال المقدَّس الأعرجي: (فأمّا قولهم (ضعيف في الحديث) ربّما ظهر من تخصيص الضعف بالحديث القدح بالمحدّث, لكنّهم ربّما فعلوا ذلك بالمقدوح)(٤٠)، إلّا أنّه ليس الأصل في هذا الوصف هو الضعيف, ولا ملازمة, وما ذكره السيّد الأعرجي إنّما يختصّ في المواطن التي تجتمع مع القرينة دون الخالية منها, ولذا لا نستطيع أن نحكم على مَن وصف بالرواية عن الضعفاء بأنّه ليس بثقة، ولا يعتمد عليه وإن كان الراوي بعده ثقة, ومن المسلّم عند مشهور علماء الفريقين هو اجتماع الوثاقة مع ضعف الحديث, كما يظهر من عدّة موارد:
منها: ما جاء في ترجمة محمد بن معاوية بن أعين أبي علي النيشابوري: (وكان له عبادة وفضل وصلاح، ولكنّه ضعيف الحديث)(٤١).
ومنها: ما قاله الذهبي في ترجمة مسلم بن خالد: (ومسلم بن خالد هذا على جلالة قدره في الفقه ضعيف في الحديث؛ لسوء حفظه)(٤٢).
ومنها: ما قاله المزّي في ترجمة الربيع بن الصبيح: (رجل صالح، صدوق، ثقة، ضعيف جدّاً)(٤٣).
وظاهر النجاشي موافقته لمسلك المشهور حيث صرّح في جملة من موارد أحكامه بهذا الاجتماع كما في ترجمة الحسن بن محمّد بن جمهور، قائلاً: (ثقة في نفسه... يروي عن الضعفاء، ويعتمد على المراسيل)(٤٤), وما ذكره في ترجمة أحمد بن محمّد بن خالد البرقي قائلاً: (وكان ثقة في نفسه، يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل)(٤٥)، وما ذكره في ترجمة محمّد بن أحمد بن يحيى: (إلّا أنّ أصحابنا قالوا: كان يروي عن الضعفاء، ويعتمد المراسيل, ولا يبالي عمّن أخذ، وما عليه في نفسه مطعن في شيء)(٤٦).
بل قد يعدّ عدم المبالاة فيمن يروي عنه مؤشّراً على حسن حال الراوي من جهة حسن ظنّه بالآخرين المتّفق مع تديّنه والتنزّه عن الطعن بالرواة.
وهذا بخلاف أصحابنا من مدرسة قم, حيث عدّوا ضعف الحديث ملازماً للضعف المطلق, وعلى هذا جاء تضعيفهم لجملة من الرواة, بل كانوا يخرجون الراوي بمجرّد توهم الريب، كما نصّ على ذلك المجلسي الأوّل O بأنّ ابن عيسى أخرج جماعة من قم باعتبار روايتهم عن الضعفاء وإيرادهم المراسيل وكان اجتهاداً منه، والظاهر خطؤه، ولكن كان رئيس قم والناس مع المشهورين إلّا مَن عصمه الله، ولو كنتَ تلاحظ ما رواه الكليني في أحمد بن محمّد بن عيسى ـ في باب النصّ على الهادي g وإنكاره النصّ لتعصّب الجاهليّة أن تكون الشهادة لرجل من العرب بأنّه لِمَ قدّمتم علي وذكر هذا العذر بعد الاعتراف به ـ لما كنت تروي عنه شيئاً ولكنه تاب ونرجو أن يكون تاب الله عليه(٤٧).
وهذا نفس ما حكاه السيد حسن الصدر S عن جدّه في شرح الاستبصار بقوله:
(ونراهم يطلقون الضعف على مَن يروي عن الضعفاء, ويرسل الأخبار)(٤٨).
ويؤيَّد هذا بملاحظة ما ذُكر في ترجمة عليّ بن محمّد بن جعفر بن عنبسة الذي قال عنه ابن الغضائري: (ضعيف، روى عن الضعفاء، لا يلتفت إليه)(٤٩), والظاهر أنّ المنشأ لهذا التضعيف هو الرواية عن الضعفاء, أمّا النجاشي فقال في ترجمته: (يقال له ابن رويدة، مضطرب الحديث)(٥٠), وأمثال هذه الموارد تُظهر دقّة النجاشي, وتبيّن مسلكه في علم الرجال, وهذا ما جاء صريحاً على لسان الوحيد O عندما قال في ترجمة إبراهيم بن هاشم: (يظهر حالهم من قدحهم الرجال, خصوصاً بالنسبة إلى الأجلّة, وسيّما ما ارتكبوا بالنسبة إليهم من إخراج البلد, وغير ذلك من الأذيّة, وخصوصاً باعتبار رواية المراسيل وعن المجاهيل, وغيرها ممّا لم يثبت عندهم عدالة رواتها)(٥١).
ومنها : مضمون أحاديث الراوي :
فإنّ هناك جملة من العلماء ـ لا سيّما علماء مدرسة قم وكذلك ابن الغضائري ـ يظهر من سيرتهم اعتماد منهج قراءة المضامين لاستكشاف حال الراوي, فإنّ وجدوا روايته لبعض الأحاديث التي لا تتناسب وما إليه يذهبون، ولا تنسجم مع ما عليه يبنون, حكموا بضعفه, كما يظهر من حال عمر بن توبة الذي ترجم له النجاشي بقوله: (في حديثه بعض الشيء، يعرف منه وينكر)(٥٢)، بخلاف ابن الغضائري حيث قال: (ضعيف جدّاً لا يلتفت إليه)(٥٣)، وما ذكر في ترجمة عبد الرحمن بن أحمد بن نهيك الذي قال فيه النجاشي: (لم يكن في الحديث بذاك، يعرف منه وينكر، ذكر ذلك أحمد بن عليّ السيرافي)(٥٤)، بخلاف ابن الغضائري الذي قال فيه: (ضعيف مرتفع القول)(٥٥).
إن قلت: إنّ هذا المنهج لا يقتصر على علماء مدرسة قم وابن الغضائري Q, بل حتى النجاشي في بعض الأحيان نجده ينحو بهذا الاتّجاه, كما في ترجمة علي بن محمّد بن شيرة حيث قال: (غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة. وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك)(٥٦), الذي يظهر منه قراءته لكتب ابن شيرة لردّ دعوى ابن عيسى وإثبات العكس.
أقول: إنّ ما ذكر هو مورد واحد لا ثاني له, فلا يدلّ على كون القراءة في روايات الراوي منهجاً؛ إذ إنّ المقام هو لردّ دعوى ابن عيسى القمي, الذي ذكرنا أنّ أحد أسس منهجهم هو قراءة الروايات, فلعلّه أراد أن ينفي الصغرى في كلامه, ولا يظهر من هذا المورد اعتماده على هذا المنهج؛ لأنّ ظاهر مدحه قبل نقل كلام ابن عيسى كاشف عن معروفيّته, حيث قال: (كان فقيهاً، مكثراً من الحديث، فاضلاً) (٥٧)، فتأمّل.
ومنها : الاتّهام بالغلو:
حيث يظهر من علمائنا القمّيّين وابن الغضائري Q تضعيف جملة من الرواة الذين اتّهموا بالغلو؛ لأنّهم رووا جملة من معجزات الأئمّة i, والذي يظهر من هذا اعتقادهم بمنزلة خاصّة للأئمّة i, فإذا عرفوا من شخص تجاوزها اتّهموه بالغلو.
نعم، يتّفق الجميع على إنكار مراتب من الغلو ويتّهم أصحابه بالانحراف ووقوعهم بما نصب لهم الشيطان من فخاخ ـ والعياذ بالله ـ وهو المؤدّي إلى ترك العبادات.
وقد ذكر الكشّي جمعاً، منهم: علي بن عبد الله بن مروان، وقال: (إنّه سأل العياشي عنهم، فقال: وأمّا علي بن عبد الله بن مروان فإنّ القوم ـ يعني الغلاة ـ تمتحن في أوقات الصلاة, ولم أحضره وقت صلاة)(٥٨). حيث إنّ هذا ظاهر في دلائل الغلو, واعتبار ترك الصلاة كاشفاً عنه.
وكذلك نقل الكشّي O عن يحيى بن عبد الحميد في كتابه المؤلّف في إثبات إمامة أمير المؤمنين g عن الغلاة: (إنّ معرفة الإمام تكفي من الصوم والصلاة)(٥٩).
وهذا هو القدر المتيقن من الغلو الملازم للانحراف، وقد دلّت عليه جملة من الروايات:
منها: ما ورد عن أبي عبد الله g: (احذروا على شبابكم، الغلاة لا يفسدوهم، فإنّ الغلاة شرّ خلق الله ـ إلى أن قال: ـ إلينا يرجع الغالي فلا نقبله, وبنا يلحق المقصّر فنقبله, قيل: كيف ذلك يابن رسول الله؟ قال: الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج, فلا يقدر على ترك عادته, وعلى الرجوع إلى طاعة الله a أبداً،
وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع)(٦٠).
ويتّضح من هذا أنّه لو ثبت هذا المعنى في أحد الرواة, وكان مشمولاً بهذه الأوصاف فلا حجّيّة لقوله؛ لأنّه لا يكون مصداقاً لما ذكر من السيرة أو الأحاديث أو الآيات الدالّة على حجّيّة أخبار الثقات.
وهناك مرتبة من الإيمان ببعض المعجزات, وإثبات بعض الأوصاف للنبي e وللأئمّة الأوصياء الهداة e, عدّ علماؤنا القميّون هذه المرتبة من مراتب الغلو والغلاة, مثل نفي السهو عن النبي e الذي نقله لنا الشيخ المفيد عن محمّد بن الحسن ابن الوليد أنّه قال: (أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي e والإمام)، فقال الشيخ المفيد: (إن صحّت هذه الحكاية عنه فهو مقصّر مع أنّه من علماء القمّيّين ومشيختهم, وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصّرون تقصيراً ظاهراً في الدين، ينزّلون
الأئمّة i عن مراتبهم, ويزعمون أنّهم كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينيّة حتى ينكت في قلوبهم, ورأينا من يقول إنّهم كانوا يلتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون, ويدّعون مع ذلك أنّهم من العلماء)(٦١).
ومن هذا يظهر أنّ جملة من هذه الاعتقادات كانت السبب وراء جملة من التضعيفات الصادرة منهم, حيث نجد أنّ جرحهم يستند إلى الاتّهام بالغلو وإن كان بالمرتبة التي وقع فيها الخلاف, للملازمة بين الغلو والكذب كما هو ظاهر جملة من الموارد, وقد صرّح بهذا الوحيد البهبهاني S، قائلاً: (اعلم أنّ الظاهر أنّ كثيراً من القدماء سيّما القمّيّين منهم والغضائري, كان يعتقد للأئمّة i منزلةً خاصّة من الرفعة والجلالة, ومرتبة معيّنة من العصمة والكمال, بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يجوّزون التعدّي عنها, وكانوا يعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً ـ حسب معتقدهم ـ حتى إنّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً, بل ربّما جعلوا مطلق التفويض إليهم, أو التفويض الذي اختلف فيه كما سنذكر, أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم, والإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص وإظهار كثير قدر لهم, وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به, سيّما بجهة أنّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلّسين.
وبالجملة: الظاهر أنّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأصوليّة أيضاً, فربّما كان شيء عند بعضهم فاسداً أو كفراً أو غلوّاً وتفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً, أو غير ذلك, وكان عند آخر ممّا يجب اعتقاده, أو لا هذا ولا ذاك, وربّما كان منشأ جرحهم بالأمور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم ـ كما أشرنا آنفاً ـ, أو ادّعاه أرباب المذاهب كونه منهم, أو روايتهم عنه، وربّما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه إلى غير ذلك, فعلى هذا ربّما يحصل التأمّل في جرحهم بأمثال الأمور المذكورة ـ إلى أن قال ـ ثمّ اعلم أنّ أحمد ابن محمّد بن عيسى والغضائري ربّما ينسبان الراوي إلى الكذب, ووضع الحديث أيضاً, بعدما نسباه إلى الغلوّ، وكأنّه لروايته ما يدلّ عليه)(٦٢).
أمّا النجاشي فلا يجعل فساد الاعتقاد ملازماً للكذب والانحراف؛ لوضوح الفرق بينهما، ويشهد لذلك أمور:
١ ـ ما ذكر في ترجمة الحسين بن حمدان حيث قال عنه ابن الغضائري: (كذّاب، فاسد المذهب، صاحب مقالة ملعونة, لا يلتفت إليه)(٦٣)، بخلاف النجاشي, حيث قال: (فاسد المذهب، له كتب منها... كتاب الرسالة تخليط)(٦٤).
وبما ذكر يظهر الفرق بين المنهجين.
٢ ـ وكذلك ما ذكر في ترجمة صالح بن عقبة بن قيس الذي قال عنه ابن الغضائري: (كذّاب، غالٍ, لا يلتفت إليه) (٦٥)، بخلاف النجاشي فإنّه لم يذكر له أيّ وصف.
٣ ـ وما ذكر في ترجمة أحمد بن محمد بن سيّار: (ضعيف، متهالك، غالٍ، منحرف)(٦٦)، بخلاف النجاشي فإنّه قال: (ضعيف الحديث فاسد المذهب ... له كتب وقع إلينا:... إلّا ما كان من غلوّ أو تخليط)(٦٧).
وغير ذلك من الموارد الكثيرة الظاهرة في أنّ الأساس للذمّ هو الاجتهاد والحدس.
إزاحة وهم
هذا وعلى الرغم ممّا مرّ, فقد يتوهّم بأنّ النجاشي يعتمد في تضعيفاته على زميله وشيخه ابن الغضائري, وبالنتيجة أنّ تضعيفات النجاشي تبتني على الحدس والاجتهاد, أو إلى ما يعتقد من مبانٍ كلاميّة وأصول معرفيّة, لأنّ ابن الغضائري كان مشاركاً للنجاشي في القراءة على والده الحسين, وفي القراءة على أحمد بن عبد الواحد, وهذا يعزّز تأثّر النجاشي بابن الغضائري(٦٨).
فيجاب: بأنّ هذه مجرّد دعوى, و ما ذكر من شواهد لا تصمد أمام الناقد البصير؛ لوضوح أنّ المزاملة والشيخوخة لا تشكّل ـ بالضرورة ـ أساساً في التأثّر والتلقّي, لا سيّما عند النجاشي وهو المتضلّع الدقيق, وصاحب الذوق والحسّ الأنيق, فإنّ كثيراً من أصحابنا المتقدّمين تلمّذوا على العامّة فضلاً عن النواصب ومن اعتنقوا المذاهب الفاسدة, من دون أن يؤثّر هذا على ما يعتقدون, ويغيّر ما يرون وينتهجون.
وتلمّذ النجاشي, أو مزاملته ـ لأحمد بن الحسين وكذلك لعلمائنا من أهل قم الذين عرفوا بأنّ منهجهم في النقد هو الاجتهاد والحدس, وكانوا من أجلّة أصحابنا المتقدّمين ـ لا يستدعي تركه لما ينظرون، لا سيّما وأنّ توثيقاتهم ممّا يمكن الركون إليها, لما عرفوا بالتحرّج في الرواية, ولكن الكلام في التضعيفات، وأنّ مجرّد التلمّذ لا يقتضي التأثّر بعد وضوح اختلاف المنهجين.
وما ذكر من متابعات في ما سطّره النجاشي من كلمات, لا يؤسّس قاعدة تجري في جميع المفردات, ومتابعته لغيره في بعضها لا تكون متابعة له في الاجتهاد, وتوجد شواهد كثيرة على خلاف ما ذكر؛ لإمكان أن يدّعى نشوؤها عن الحسّ لا الحدس, فجاز له أن ينقل ما نقله ابن الغضائري, أو غيره من أصحاب مدرسة الحدس والاجتهاد, ولا يوجد ما يبّرر ترك جميع هذه التضعيفات على أساس أنّها صادرة عمّن ينتهج الحدس.
مناقشة الشواهد:
أ ـ ما ذكر في ترجمة جعفر بن محمّد بن مالك ـ من أنّ تضعيف النجاشي(٦٩) ناشئ من قول ابن الغضائري كما حكي عن روضة المتقين(٧٠) ـ فيه تأمّل واضح؛ إذ قد صرّح بأنّه ضعيف في حديثه, وأمثال هذا عادة يمكن معرفته عن حسّ بتتبّع رواياته ومشايخه, فإن كان يروي المراسيل وينقل عن الضعفاء والمجاهيل حكم بضعفه في الحديث. بينما ابن الغضائري قد وصفه بالكذب, ولم يذكر النجاشي شيئاً من هذا بل نسبه إلى ابن الغضائري, ولا تعدّ نسبة القول اعتماداً وتبنّياً عند الناقل كما هو واضح, وكذلك نسب فساد المذهب إلى قائل سمع منه ذلك, ولم ينسبه إلى ابن الغضائري, ولعلّه لما علم من أنّ ابن الغضائري له رؤى تختلف بعض الشيء عن مشهور علمائنا، وأين هذا من متابعة ابن الغضائري ؟!
ب ـ وأمّا ما ذكر في ترجمة المفضّل بن عمر الذي وصفه النجاشي بقوله: (فاسد المذهب, مضطرب الرواية, لا يعبأ به, وقيل: إنّه كان خطّابيّاً, وقد ذكرت له مصنّفات لا يعوّل عليها, وإنّما ذكرناه للشرط الذي قدّمناه. له كتاب ما افترض الله على الجوارح من الإيمان، وهو كتاب الإيمان والإسلام، والرواة له مضطربون الرواية له...)(٧١).
وهذا الكلام صريح في فساد مذهبه, ولعلّه هو المعروف عنه.
نعم، هناك قول مرّضه النجاشي قائلاً: (قيل بأنّه خطّابي) وهذا قول ابن الغضائري, أو قوله وقول غيره, وعلى كلا القولين لا يمكن أن يطمئنّ لمذهبه, وكذلك في ما يروي, فهذا قدح في ما يروي وذمّ في ما يسند, ومن كان حاوياً لهذه الصفات كيف يعوّل على ما يذكر من أخبار وروايات.
نعم، لم يذمّه من جهة وثاقته في نفسه, وإنّما الكلام في ما يروي وما يصنّف, وهذا طعن وتوقّف في ما يصنّف بقوله: (لا يعوّل عليها)، وقد يراد منه أنّ جميع مصنّفاته لا يعتمد عليها عدا ما يعرف بتوحيد المفضّل (كتاب فكر). وقد استظهر منه العلّامة التستري S(٧٢) استقامة مذهبه, إلّا أنّه ـ وإن صحّ ما قيل ـ لا يعدو عن كونه حدساً واجتهاداً بعد إمكان أن تكون هذه التضعيفات تلاحظ حاله إلى فترة ما قبل الممات, لا سيّما أنّه أدرك الكاظم g وروى عنه.
ج ـ ما استشهد به من كلام العلّامة المامقاني في ترجمة داود بن كثير الرقي بأنّ جرح النجاشي هنا محلّ نظر, لأنّه عارض كلام الكشّي النافي سماعه لأحد من مشايخه الطعن فيه, بل تتبّع الروايات ولم يجد في روايته أيّ شيء يطعن عليه, فكلام النجاشي محكوم بنفي الكشي، وينحصر تضعيف النجاشي للرجل بقول ابن الغضائري: (وهو أنّ الغلاة تروي عنه). وبناءً على هذا القول يظهر تفرّد النجاشي في جملة من الموارد في الرأي ولو على خلاف المشهور(٧٣).
وفي هذا الكلام عدّة أمور:
الأمر الأوّل: ما ذكر من أنّ الأساس في تضعيفه هو كلام ابن الغضائري.
ويرد عليه:
١ ـ ما أورده السيد الخوئي S في ترجمة داود الرقّي من أنّ منشأ تضعيف النجاشي هو رواية الغلاة عنه يعدُّ من الغرائب؛ لعدم وجود القرينة, إذ كيف يمكن أن تكون رواية الغلاة عن شخصٍ سبباً للحكم بضعفه بنظر النجاشي وهو خرّيت هذه الصناعة(٧٤).
٢ ـ إنّ هناك جملة من الرجال الذين وصفوا بأنّ الغلاة تروي عنهم, ولم يضعّف النجاشي حالهم, بل وثّقهم, كما في ترجمة عبد الله بن أيّوب الذي قال عنه ابن الغضائري: (ذكره الغلاة ورووا عنه)(٧٥), بخلاف النجاشي حيث قال: (ثقة)(٧٦), وما ذكره في ترجمة عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي، قال عنه ابن الغضائري: (الغلاة تروي عنه كثيراً)(٧٧)، بخلاف النجاشي الذي قال: (كان ثقة ثقة, عيناً)(٧٨), فلو كانت رواية الغلاة تعدُّ قدحاً عند النجاشي لما وثّق هؤلاء.
٣ ـ ما ذكر خلاف ظاهر عبارة النجاشي حيث قال: (ضعيف جدّاً, والغلاة تروي عنه)(٧٩) ومثل هذا غير ظاهر في التعليل.
٤ ـ ما قدّمناه من أنّه حتى لو سلّم نقله لكلام ابن الغضائري فهذا يكفي للحكم بحسّيّة المنقول؛ لعدم فرض أنّ جميع هذه التضعيفات ناشئة عن حدس على نحو الشمول والاستغراق؛ لوضوح أنّ جملة من المحكوم بضعفهم معروف ومشهور وصفهم، ولا يحتاج الى إعمال حدس.
الأمر الثاني: إنّ كلام النجاشي محكوم بدعوى الكشّي نفي الطعن من أحد العصابة فيه, وإنكاره العثور على رواية, فدعوى النجاشي لا أصل صحيح لها.
ويجاب بأمور:
١ ـ ما ذكره السيد الخوئي S من أنّ لحاظ نفي الكشّي إنّما هو من جهة المذهب, حيث إنّه كان في معرض اتّهامه بالغلو, وقال: (لم أسمع أحداً من المشايخ يطعن فيه). وعلى هذا فإنّ دعوى النجاشي لا تعارض دعوى الكشّي لاختلاف جهة اللحاظ. وهذا متين.
٢ ـ لو سلّم دلالة ما ذكره الكشّي فأقصى ما يدلّ عليه هو معارضته لكلام النجاشي, ولا مرجّح لتقديم قول الكشّي, إلّا إذا اطمأنّ بقوله ولم يطمأن بقول النجاشي فيما إذا بني على حجّيّة قول الرجالي من باب الاطمئنان, كما بنى عليه غير واحد منهم العلّامة المامقاني(٨٠), ولكن هذا يتبع ما يحصل عليه من قرائن تؤيّد الطرف المختار في المقام, وعلى هذا فما ذكر لا يتمّ على جميع المباني المذكورة في حجّيّة قول الرجاليّ.
الأمر الثالث: استظهار تفرّد النجاشي بآرائه على خلاف مبنى المشهور.
ويجاب عنه: إنّ ما ادّعي غير صحيح، وقد تقدّم كونه من أصحاب منهج النقل عن المتقدّمين، والواسطة عن الجارحين والموثّقين, وما ذكر لا يعدّ مؤثّراً على ما قيل.
ولو سلّم فإنّه لا يعدو كونه مورداً واحداً لا يكون كاشفاً عن سريانه في سائر ترجماته وأحكامه، ويشهد لما قلناه ما يظهر من جملة كثيرة من التراجم التي قدّمنا بعضها سابقاً, ويضاف لها ما ذكر تحت رقم: (١٠٥٩، ٥٨، ٦٤، ٦٥، ٩٣، ١١٨، ١٤١، ٢٤٧) وغيرها كثير، فإنّه صريح في النقل عن الأصحاب.
الأمر الرابع: ويشهد لذلك ما حكاه الميرزا النوري في ترجمة (داود بن كثير الرقّي) عن الوحيد البهبهاني O: (من أنّه قلّما يتّفق جليل لم يطعن عليه أحد من العصابة, كما نصّ عليه الأستاذ الأكبر، فمن سلم من قدحهم فقد فاز بالقدح المعلّى)، وهذا يشير إلى السبب الكامن وراء تفرّد النجاشي، وهو اعتماده على مبانٍ في الكلام قاصرة عن المعرفة في كثير من مقامات الأئمّة i(٨١).
ويجاب: بأنّ هذا مبنيٌّ على الافتراض مسبقاً لعلوّ مرتبة (داود بن كثير)، وهو أوّل الكلام.
وما ذكر من كلام الوحيد ظاهر في كون أصحابنا المتقدّمين حريصين كلّ الحرص على تراثهم, فهم يلحظون كلّ دقائق الأمور, فإذا سلم أحد من نقدهم ظهر أنّه من الأجلّاء, وليس في هذا دلالة على تفرّد النجاشي, وكونه قد اعتمد على ابن الغضائري. فضلاً عن كونه مورداً واحداً لا يؤسّس قاعدة أو منهجاً.
ث ـ وأمّا ما استُشهد به على المدّعى بما حُكي(٨٢) من توثيق المعلّى بـن خـنيـس بما رواه الكليني بسند صحيح لمّا بلغ الإمام خبر قتل المعلّى قال: (أفٍّ للدنيا، أفٍّ للدنيا, إنّما الدنيا دار بلاء يسلّط الله فيها عدوّه على وليّه)، ومع هذا فلا تصل النوبة إلى معارضة هذا بتضعيف النجاشي إيّاه حينما قال: (ضعيف جدّاً، لا يعتنى بروايته)، وذلك لما يلي:
أوّلاً: إنّ شهادة النجاشي ـ على فرض تماميّتها ـ إنّما يمكن أن تعارض شهادة الشيخ، ولا مجال لتوهّم تعارضها مع شهادة الإمام g.
ثانياً: إنّ الظاهر من تضعيف النجاشي إيّاه كون الجرح لأجل ما روى من روايات المعارف والمناقب ممّا لا يحتمله النجاشي, لذا قال: (لا يعتنى برواياته) فتكون شهادته حدسيّة لا حسّيّة, فلا تشمله أدلة حجّيّة الخبر, ولا أقلّ من احتمال الحدس, ومعه أيضاً لا يمكن التمسّك بدليل حجّيّة الخبر؛ لأنّ مدرك حجّيّة خبر الثقة إنّما هو السيرة العقلائيّة الممضاة, وهذا دليل لبّيّ يؤخذ بالقدر المتيقن منه, وهو ما لا يحتمل فيه الحدس(٨٣).
ثالثاً: ما يقال في معارضة شهادة الشيخ مع النجاشي بتقديم قول النجاشي؛ لأنّه كان متمحّضاً في علم الرجال وكان تتبّعه فيه أكثر, بخلاف الشيخ الذي كان ذا فنون كثيرة. مردود لأنّ الأكثر خبرة إنّما يقدّم قوله فيما كان للخبرويّة دور في القضيّة كالاجتهاد والحدس، لا في مثل الشهادة التي يكفي فيها سلامة الحواس والحفظ(٨٤).
فيناقش:
أمّا ما ذكر أوّلاً فيجاب عنه بأنّ معارضة قول النجاشي لكلام الإمام من البحوث التي تعّرض لها علماؤنا، وقد عقدنا لها بحثاً مستقلاً.
وما ادّعي من أنّ قول النجاشي لا يعارض كلام الإمام إنّما يتمّ بناءً على كون حجّية قول الرجالي على مسلك حجّية الظنّ أو الاطمئنان, لإمكان أن يدّعى حصول أحدهما في جانب الخبر الصحيح. وأمّا بناءً على مسلك حجّية الخبر الواحد في قول الرجالي فيتعـارضان ويتسـاقـط ـ ان لما ثبت مـن أنّ حجّية الروايـات تبتـني على افـتـراض حـجّـيـة خـبـر الواحد.
وأمّا ما ذكر ثانياً فيجاب عنه:
أوّلاً: بأنّ هذا الوجه يبتني على كون حجّية قول الرجاليّ من باب حجّية خبر الواحد، وهذا يتنافى مع ما ذكر في الوجه الأوّل لترجيح المروي على قول النجاشي, لابتنائه على مسلك الظن المعتبر أو الاطمئنان.
ثانياً: إنّ هذا إن تمّ فكذلك لا يعدو كونه من الموارد التي لا تؤسّس قاعدة وميزاناً في الجميع, بحيث تردّ دعواه بمجرّد معارضته للروايات بدعوى كونها ناشئة عن حدس, أو يحتمل ذلك فيها, والصحيح هو العكس؛ لغالبيّة فتاوى النجاشي عن حسّ دون حدس.
وأمّا ما ذكر ثالثاً فيجاب عنه :
أوّلاً: بأنّ ما ذكر في مناقشة تقديم قول النجاشي على قول الشيخ يبتني على مسلك حجّية الخبر الواحد في قول الرجاليّ دون غيره من المسالك.
ولكن نقول حتى لو بنينا على هذا فقد يقدّم قول النجاشي على قول الآخر كالشيخ ـ مع احتمال اشتباه الآخر، وقد ثبت ذلك عن الشيخ.
ثانياً: بأنّ من الثابت عندنا تقديم قول النجاشي فيما إذا عارض كلام الشيخ مطلقاً؛ وذلك لما يظهر من أنّ الشيخ يتبع في أحكامه الرجاليّة مدرسة الاجتهاد والحدس المتمثّلة بالقمّيّين، بينما قول النجاشي مبتنٍ على الحسّ كما ذكرنا, فالأصل في المقام هو تقديم قول النجاشي.
الدليل الثاني: موقف النجاشي من البتريّة:
من الملفت للنظر أنّه لم نرَ منه تصريحاً ولا تلويحاً بالحكم على البتريّة بأنّهم من العامّة مع أنّ مقتضى عدم تصريحه ـ مع ما ذكر في ديباجة كتابه من أنّه يختصّ بذكر كتب أصحابنا الإماميّة ـ أنّهم من الإماميّة, ومع ذلك فقد أثنى بإجلال على جملة من البتريّة, ولم يطعن عليهم بشيء, ولا بوصف أنّهم من العامّة, ولا بوصف أنّهم من البتريّة.
بتقريب: إنّ عدم وصفه لهم بأنّهم من العامة والثناء على بعضهم وتوثيقهم مع تحسّسه الشديد من رواة أسرار المعارف يظهر في تحكيم مبانيه الفكريّة على أحكامه الرجاليّة.
الجواب:
تقدّم منّا أنّ ديباجة الكتاب ظاهرة بكون غرض الكتاب هو استقصاء الكتب المنتمية إلى مذهبنا وإن صنّفها غيرنا, ولذا ذكر أسماء جملة من العامّة وفاسدي المذهب, مع أنّه لم ينصّ على مذهبهم, ولم يتعهّد هو بذلك, فلاحظ.
أمّا تعرّضه بالتوثيق لجملة من البتريّة، فأقول:
إنّ توثيق النجاشي لشخص بقول مطلق ظاهر في سلامة مذهبه، كما ذهب إليه جملة من العلماء(٨٥)، وهو الظاهر.
وما ذكر في غياث بن إبراهيم حيث ترجم له بقوله: (التميمي، الأسدي، بصريّ, سكن الكوفة, ثقة, روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن h)(٨٦) وإن كان يستظهر منه حسن مذهبه وسلامة معتقده، مع أنّ الشيخ نصّ على كونه بتريّاً.
ولكن قد يقال إنّ غياث الذي ذكره الشيخ يغاير الذي ذكره النجاشي؛ لأنّ الشيخ ذكره فـي أصحاب البـاقـر g, والـذي ذكره النـجـاشـي مـن الـرواة عن الصـادق والكاظم h.
ويمكن أن يجاب: بأنّ المذكورين في أصحاب الأئمّة من رجال الشيخ أعمّ من أصحاب الرواية واللقاء, فلعلّه لاقى الإمام الباقر g ولم يروِ عنه.
وقد مال إلى الاتّحاد جملة من العلماء منهم المحقّق الحلّيّ في المعتبر(٨٧), والمقداد في التنقيح(٨٨), والفاضل الآبي في كشف الرموز(٨٩).
واستظهر بعضٌ التعدّدَ لما ذكر من اختلاف الطبقة, لأنّ الرواة لكتابه مجموعة يصعب اتّصالها بأصحاب الباقر g, مثل إسماعيل بن أبان الذي ذكر النجاشي أنّه روى كتاب غياث, والذي يروي كتاب إسماعيل هو أحمد بن أبي عبد الله البرقي, كما ذكر في ترجمته(٩٠)، وقد توفّي أحمد عام ٢٨٠ للهجرة, ولا يمكن روايته عن أصحاب الباقر g بواسطة واحدة ـ وهو إسماعيل بن أبان ـ وذكر الشيخ أنّ الراوي لكتاب غياث هو محمّد بن يحيى الخزّاز، وهذا أيضاً روى عنه أحمد بن أبي عبد الله البرقي فيأتي فيه نفس الكلام (٩١).
بل يمكن القول بعدم صحّة ما قيل حتّى بناءً على الاتّحاد بين العنوانين؛ لإمكان ثبوت الخلاف بينهم في مذهبه، فالنجاشي يرى حسن مذهبه دون الشيخ، وهذا واقع بينهم كما يظهر ذلك من ترجمة إسحاق بن عمّار الذي وثّقه صريحاً بقوله: (شيخ من أصحابنا, ثقة)(٩٢)، ولكنّ الشيخ خالفه بقوله: (كان فطحيّاً إلّا أنّه ثقة)(٩٣)، وعليه فلا يمكن الركون إلى ما قيل في أصل الدليل.
وأمّا ما ذكر في مسعدة بن صدقة, وسالم بن أبي حفصة, وعمرو بن أبي المقدام ـ الذين لم يذكر لهم النجاشي أيّ وصف ـ فلم يثبت أنّه وثّقهم من جهة الاعتقاد؛ لما أشرنا إليه من أنّ عدم ذكر الوصف لا يدلّ على حسن المذهب وسلامة الاعتقاد.
الدليل الثالث: تضعيفات العامّة منشأ لجملة من تضعيفات النجاشي:
نلاحظ أنّ هنالك جملة من التضعيفات لا نجد من وافقه عليها إلّا ابن الغضائري والعامّة بعبارات متقاربة, ومن ثمّ لا يبعد استظهار أنّ مراد النجاشي من إسناد التضعيف والغمز, شامل لأرباب الجرح والتعديل من العامّة، ويستشهد لذلك بموارد عدّة( (٩٤).
الجواب: لم نعرف وجهاً لهذا الاستظهار، وما قيل إنّما هو مجرّد احتمال ينافي الأسس التي ينتهجها النجاشي, ومن الغريب ادّعاء أمثال هذا بحق خرّيت الصناعة والرائد في هذا الميدان حتى أنّه رجع إليه جميع علمائنا المتقدّمين, وما ذكر من شواهد لا يمكن أن تدلّ المدّعى:
أمّا الشواهد التي ذكرت في المقام فهي أربعة:
١ ـ مـا ذكـره النـجـاشـي في تـرجمة جـابر بـن يـزيـد، قـائـلاً: (روى عـنـه جمـاعـة غمـز فـيـهـم وضعّفوا, منهم عمرو بن شمر, ومفضّل بن صالح, ومنخل بن جميل, ويوسف بن يعقوب, وكان في نفسه مختلطاً, وكان شيخنا أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان O ينشد أشعاراً كثيرةً في معناه تدلّ على الاختلاط)(٩٥), والملاحظ أنّ جابر بن يزيد لم يضعّف حتى من قبل الفضل بن شاذان, والكشّي, وإنّما ضعّفه العامّة.
ويجاب عنه: لا نعرف ما الرابط بين تضعيف وغمز القوم بمن رووا عن جابر والتضعيف المطلق له, بعد عدم ظهوره من النجاشي, أمّا الغمز في مَن رووا عن جابر فكيف علم أنّ منشأه من العامّة؟! وأمّا ما ذكر في حقّ جابر فلعلّ منشأه الشيخ المفيد S.
وما ذُكر من أنّه قد استقاه من العامّة لأنّهم ضعّفوه فبعيدٌ؛ لوجود جملة من الرجال وقع الاتّفاق بين الخاصّة والعامّة على وصفهم, فلعلّه منهم, وكيف لنا الحكم بتعيين المنشأ مع غياب جملة من كتب أصحابنا المتقدّمين في الرجال, التي كانت المصدر له في تلك الأحكام؟! فدعوى انحصار التضعيف بالعامّة لا أساس لها بعد عدم ثبوت توثيق صريح من أصحابنا.
٢ ـ ما ذكـر في ترجمـة يحيـى بن سـعيد القطـان، قـائلاً: (عاميّ, ثقة)(٩٦)، وقد طعن يحيى هذا في عشرات من الرواة لأنّهم يتشيّعون أو لأنّ عندهم هوى التشيّع, ومن عسى أن يكون يحيى بن سعيد أصلاً وفصلاً وحسباً كي تعرف به النجوم الزاهرات(٩٧).
ويجاب عنه: بأنّه لا ينبغي الشكّ في عدم الاعتماد على تضعيفات مثل يحيى بن سعيد , لأنّها معروفة العلّة, وهذا ثابت ممّا لا خلاف فيه, إلّا أنّ هناك فرقاً بين هذا وبين الوثاقة بالمعنى الأخصّ التي لا يشترط فيها سوى الضبط وعدم الكذب, ولعلّ هذا منه, وكيف يمكن لنا أن نحكم بضعفه إذا كان معروفاً بعدم الكذب وضبطه للحديث, والنجاشي وإن وثّقه ولكنّ بيّن فساد معتقده, ولم يعتمد عليه في أيٍّ من طرقه المذكورة في كتابه, وإنّما ذكره لأنّه روى نسخة عن الإمام الصادق g وهو في معرض الردّ على دعوى بعض المخالفين, وما ذكر من توثيق له لا يلزم الاعتماد على أحكامه في الرجال؛ لأنّها معروفة العلّة.
٣ـ ما ذكر في ترجمة أبي المفضّل الشيباني : (كان أوّل أمره ثبتاً ثمّ خلط, ورأيت جلّ أصحابنا يغمزونه ويضعّفونه)(٩٨), والملاحظ أنّ وصف النجاشي في آخر عمره ـ بعد أن كان ثبتاً ـ متطابق مع ما قالته العامّة فيه, بأنّ سبب ضعفه قعوده في آخر عمره, وإملائه أحاديث في مثالب الصحابة, وهذا هو بيت القصيد في تضعيف العامّة(٩٩).
ويجاب عنه: بأنّ وصفه بالتخليط يظهر أنّه كان مشهوراً بين الخاصّة فضلاً عن العامّة, ولم يكن ما قيل فيه من ابتداعه, بل نسبه إلى جلّ الأصحاب، وكذلك الشيخ الطوسي, وما ذكره العامّة فيه من التخليط يظهر أنّ منشأه أصحابنا لا العكس, فقد نقل ابن حجر عن أبي ذر: (أنّ سبب ذلك أنّه قعد للرافضة وأملى عليهم أحاديث ذكر فيها مثالب الصحابة وكانوا يتّهمونه بالقلب والوضع)(١٠٠).
٤ ـ ما ذكر في ترجمة عمرو بن شمر، قائلاً: (ضعيف جدّاً, زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه, والأمر مُلَبّس)(١٠١)، ولم ينسب أحد من علماء الشيعة إليه
ذلك, وإنّما الذي نسبه إليه جملة من أعلام العامّة كالذهبي وابن حجر.
ويجاب عنه: بأنّ النفي عن علماء الشيعة غير واضح المستند بعد غياب جملة من كتب الأصحاب, وانحصار معرفتها بواسطة ما ذكره الكشّي والشيخ والنجاشي من كلمات, وما ذكره العامّة غير واضح التسرّب إليه بالإضافة إلى هذا لم نجد من وثّق عمرو بن شمر أو أشار إلى مدحه في غالب الكلمات.
الدليل الرابع: تأثّر النجاشي بالعامّة:
تتلمذ النجاشي على جملة من مشايخ العامّة وتأثّر بأفكارهم, وجاراهم في جملة من آرائهم الرجالية, وقد روى عن جملة منهم(١٠٢).
ويجاب عنه: بأن من المعروف أنّ الحضور والتلقّي والإسناد بين مختلفي المذهب كان مشهوراً بين العلماء في فترة من الزمان لا سيّما الحواضر العلميّة المختلطة كبغداد التي كانت المركز العلميّ للشيعة وتحتضن علماء من مذاهب أخرى كالشافعيّة والحنابلة.
وقد حكى الشيخ الصدوق عن بعض شيوخه ـ وهو أحمد بن الحسين بن عبيد الضبّي النيسابوري المرواني ـ أنّه كان ناصبيّاً حتى بلغ من نصبه أنّه كان يقول: (اللهم صلِّ على محمّد فرداً) ويمتنع من الصلاة على آله الطاهرين(١٠٣).
ولم يدّع تأثّر أحدٍ من العامّة به فضلاً عن العلماء. فإن ادّعي ذلك في حقّ النجاشي, فلماذا لا يقال هذا بحق الشيخ الصدوق الذي صرّح بأنّ إحدى درجات الغلو نفي السهو عن النبي e.
ولا يصح ما ادّعي أيضاً من ثبوت التلازم بين إسناده عن بعض علماء العامّة وجعلهم في طرقه وكونه اعتمد عليهم بالتضعيف.
وبعبارة أخرى: هناك فرق بين كون شيخه عامّيّاً وروايته عنه وبين تلمذته عليه وتلقّيه منه وتأثّره به, فإنّ الجرح والتعديل له ملاكات تختلف باختلاف المدارس والمباني، والشيخ النجاشي من المتمهّرين والمختصّين في هذا المجال، لذا تجده حريصاً في نقد ومتابعة الأقوال كما يلاحظ من ترجمة علي بن شيرة القاشاني إذ تابع ما قاله أصحابنا القمّيّون في حقه، واعترض على مستندهم , فكيف إذا جاءت الدعوى من عامّيّ؟
بل لم نجده على الإطلاق قد اعتمد أو أسند في كتابه دعوى تضعيفٍ إلى أحد من العامّة.
نعم، جعل جملة من رواة العامّة واسطة في بعض طرقه التي ذكرها في كتابه لعلّه من جهة إثبات الحجّة على المخالفين الذين كانوا السبب في هذا التصنيف.
وبعد شيوع الاعتماد على هذا الكتاب بين العلماء لما عُرف عن مؤلّفه من كونه في غاية الضبط ونهاية المعرفة في متابعة أقوال المتقدّمين من علماء الرجال فكانت أحكامه طريقاً حسّيّاً في نقل أحوال الرواة.
هذا آخر ما أردنا ذكره في هذا المقام، وسيأتي مزيد بيان لبعض المطالب مع بقيّة المباحث المتعلّقة بكتاب النجاشي O في كتاب مستقل سيُطبع قريباً بإذنه تعالى .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المصادر
(١) الرسائل التسع/ المسألة السادسة: ٢٩٥, المعتبر: ١/ ٩٢ , ٢٣٠ , ٢٩٢ وغيرها كثير.
(٢) منهج المقال: ١/٣٣١.
(٣) روضة المتقين (ط. ق): ١٤/٣٣١.
(٤) اختيار معرفة الرجال: ١٠٦٥.
(٥) اختيار معرفة الرجال: ١١٤١, وقد وصف ابن بزيع بأنّه من صالحي هذه الطائفة وكثير العمل، ممّا يظهر من العبارة الأخيرة كثرة اشتغاله وتحصيله.
(٦) رجال النجاشي: ١٠٤٣.
(٧) رجال النجاشي: ٥٧٥.
(٨) رجال النجاشي: ١٥٨، ٢٥٤، ٢٨٦، ٣٠٢.
(٩) الفوائد الرجاليّة: ٢/ ٤٠, منتهى المقال: ١/ ٢١٧.
(١٠) الوجيزة في علم الرجال: ٢٢.
(١١) الرواشح السماوية /الراشحة العشرون: ١٢٦.
(١٢) حكاه الوحيد عن بعضٍ ولم يسمّه.
(١٣) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣٢٨.
(١٤) رجال النجاشي: ١٥٢.
(١٥) رجال النجاشي: ٢٠٢.
(١٦) رجال النجاشي: ١٨٣.
(١٧) رجال النجاشي: ١٤٩.
(١٨) رجال النجاشي: ٥٥٨.
(١٩) رجال النجاشي: ٨٩٦.
(٢٠) رجال النجاشي:٩٣٩.
(٢١) رجال النجاشي: ٦٦٩.
(٢٢) رجال النجاشي: ٢٠٧.
(٢٣) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢١.
(٢٤) رجال النجاشي: ١٠٥٩.
(٢٥) الرجال لابن الغضائري: ١٤٩.
(٢٦) رجال النجاشي: ٥٨.
(٢٧) رجال النجاشي: ٩٣.
(٢٨) رجال النجاشي: ٦٤ -٦٥.
(٢٩) رجال النجاشي: ١١٨.
(٣٠) رجال النجاشي: ١٤١.
(٣١) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٣.
(٣٢) الفهرست: ٣١.
(٣٣) رجال النجاشي: ٢٠٩.
(٣٤) العدّة في أصول الفقه: ١/ ١٢٦.
(٣٥) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢١
(٣٦) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٢.
(٣٧) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٣.
(٣٨) منهج المقال: ١/ ١٢٨.
(٣٩) مقباس الهداية: ٢/ ٤٣.
(٤٠) عدة الرجال: ٢/ ١٥٤.
(٤١) تهذيب الكمال: ٢٦/ ٤٧٨ ،٤٨٠.
(٤٢) سير أعلام النبلاء: ١٠/ ٦.
(٤٣) تهذيب الكمال: ٩/ ٩٣.
(٤٤) رجال النجاشي: ١٤٤.
(٤٥) رجال النجاشي: ١٨٢.
(٤٦) رجال النجاشي: ٩٣٩.
(٤٧] ) روضة المتقين (ط. ق): ١٤/ ٢٦١, منهج المقال: ٦/ ١٢٨.
(٤٨) نهاية الدراية: ٤٣٢.
(٤٩) رجال ابن الغضائري: ٨١.
(٥٠) رجال النجاشي: ٦٨٦.
(٥١) منهج المقال: ١/ ٣٨٧.
(٥٢) رجال النجاشي: ٧٥٣.
(٥٣) الرجال: ٨٢.
(٥٤) رجال النجاشي: ٦٢٤.
(٥٥) الرجال: ٩٤. لاحظ ترجمة ابن أورمة في رجال الغضائري وغيرها.
(٥٦) رجال النجاشي: ٦٦٩.
(٥٧) رجال النجاشي: ٦٦٩.
(٥٨) رجال الكشي: ٥٧٦.
(٥٩) رجال الكشي: ٣٩١.
(٦٠) بحار الأنوار: ٢٥/ ٢٦٥.
(٦١) تصحيح اعتقادات الإماميّة: ١٣٥.
(٦٢) ينظر: الفوائد الرجالية: ٣٩.
(٦٣) الرجال: ٤٠.
(٦٤) رجال النجاشي: ١٥٩.
(٦٥) الرجال: ٧٠.
(٦٦) الرجال: ١١.
(٦٧) رجال النجاشي: ١٩٢.
(٦٨) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٩٥.
(٦٩) رجال النجاشي: ٣١٣.
(٧٠) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣١١.
(٧١) رجال النجاشي :١١١٢.
(٧٢) قاموس الرجال: ١٠/ ٢١٥.
(٧٣) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٩٦.
(٧٤) معجم رجال الحديث: ٧/ ١٢٧.
(٧٥) الرجال: ٩٣.
(٧٦) رجال النجاشي: ٥٧٨.
(٧٧) الرجال: ١٧٥.
(٧٨) رجال النجاشي: ٦٤٥.
(٧٩) رجال النجاشي: ٤١٠.
(٨٠) تنقيح المقال: ١/ ٨٢.
(٨١) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٩٨.
(٨٢) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣٠٠.
(٨٣) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢٩٩.
(٨٤) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣٠٠.
(٨٥) وفد عقدنا لتفصل الكلام في ذلك بحثاً مستقلاً في كتابنا الذي سيُطبع لاحقاً بإذنه تعالى.
(٨٦) رجال النجاشي: ٨٣٣.
(٨٧) المعتبر: ٢/ ٤٢٢.
(٨٨) حكاه الشيخ عبد النبي الجزائري في تكملة الرجال: ٢/ ٢٦٠.
(٨٩) كشف الرموز: ٢/ ٢٤٠.
(٩٠) رجال النجاشي: رقم ٧٠.
(٩١) معجم رجال الحديث: ١٣/ ٢٥٤.
(٩٢) رجال النجاشي: ١٦٩.
(٩٣) الفهرست: ٥٢.
(٩٤) ) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣١٦
(٩٥) رجال النجاشي: ٣٣٢ .
(٩٦) رجال النجاشي: ١١٩٦.
(٩٧) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣١٦.
(٩٨) رجال النجاشي: ١٠٥٩.
(٩٩) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٢١٧.
(١٠٠) لسان الميزان: ٥/ ٢٣٢.
(١٠١) رجال النجاشي: ٧٦٥.
(١٠٢) بحوث في مباني علم الرجال: ٢/ ٣٢٠.
(١٠٣) عيون أخبار الرضا: ٢/٣١٢.